تتوقف أنفاس الشعب التركي والعالم من خلفه خلال هذا الأسبوع الأخير قبل الانتخابات التركية الحاسمة والتي تجمعت قوى المعارضة بأطيافها المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومن فريق من القوميين إلى العلمانيين إلى اللبراليين وحتى بعض من ينسبون نفسهم للتيار الإسلامي التركي تجمعوا جميعاً على هدف واحد وهو اسقاط أردوغان. وتحظى هذه المعارضة بتأييد غربي واسع لها من أجل نفس الهدف وهو إسقاط أردوغان وإبعاده عن المشهد السياسي.
لكن لماذا هذا التكاتف الغير مسبوق بين هؤلاء المتناقضين فكرياً وعقدياً؟ هل أردوغان خطير على الوطن لهذه الدرجة؟ ولماذا يدعم الغرب هذا التيار؟ أهو الخوف على مصالح الشعب التركي؟ أم أن أردوغان يمثل تهديداً وخطراً على المشروع العالمي؟ سنحاول رسم ملامح الإجابة على هذا السؤال في الفقرات التالية.
زرت تركيا في التسعينات عدة مرات عندما كانت بلداً متخلفاً ذا بنية تحتية مدمرة وعملة لا قيمة لها وكان التضخم والبطالة في مستويات قياسية، وليس للبلد موقعاً على خارطة الدول الكبرى أو الدول الواعدة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو العسكري رغم تاريخها العريق وثرواتها وأرضها الخصبة بالإضافة إلى موقعها الجغرافي والديموغرافي الكبيرين. لكن تركيا الآن أصبحت دولة قوية ومهمة على الخريطة الدولية ولها وزنها السياسي والاقتصادي والعسكري وتلعب دوراً محورياً كقوة إقليمية كبرى في المنطقة بل وتحاول أن تزاحم الدول الكبرى وتشكل لنفسها سياسة مستقلة عن حلف النيتو التي هي عضوة به. ويشكل وضعها وحجمها السياسي والعسكري المتنامي كابوساً للجيران الأوروبيين في الاتحاد الأوروبي وصداعاً متزايداً لأعضائه يصرحون به في كل مناسبة وهو ما لا يخفى على أحد. والفرق بين تركيا التسعينات وتركيا الحالية صنعه حكم أردوغان بلا ريب.
جاء أردوغان من خلال حزب معلمه نجم الدين أربكان وتوليه رئاسة بلدية إسطنبول وعمله بجد على خدمة البلدية وتطويرها وتطهيرها من الفساد الإداري وتقديم وتيسير كل ما يحتاجه سكانها، ثم انشقاقه على حزب الرفاه وتأسيسه حزبه الخاص باسم العدالة والتنمية ، وكانت اطروحاته وقتها مطمئنة للدول الغربية التي رأت فيه بديلاً إسلامياً معتدلاً وغير معادي للغرب ويمكن تقديمه كأنموذج إسلامي بديل عن الطرح الراديكالي المتشدد (من وجهة نظرهم) والذي كان ينتشر بقوة داخل أركان العالم الإسلامي والعربي، فرأى الغرب في طرح أردوغان بديلاً محافظاً بنكهة إسلامية مقبولاً للغرب لدرجة يمكن تسويقه نموذجاً للمد الإسلامي المتزايد حول تركيا. فهو لم يرفض النظام الغربي للحكم ولا ديمقراطيته ولم يعارض كون تركيا عضواً بالنيتو بل سعى لضمها للاتحاد الأوروبي وقام بعمل تغييرات تلبي مطالب الاتحاد وشروطه.
الآن وعلى أعتاب الانتخابات التركية يوم الأحد القادم يواجه أردوغان تحدياً كبيراً ويلاقي منافسة شرسة من معارضة اتحدت خصيصاً للإطاحة به بتأييد غربي كبير. فما الذي تغير ليتحد الغرب مع المعارضة لإزاحة أردوغان؟ وهل أكتشف الغرب شيئاً في أردوغان لم يكن يعرفه حين أيده في بداية حكمه للدولة التركية قبل أكثر من عشرين عاماً؟ وقد يكون من النافع هنا التعريج على ما يجري من نقاش دائم بين الإسلاميين من العرب خاصة عن كنه أردوغان وحقيقته وإسلاميته، حيث لاحظوا من حال الرجل خلطاً غريباً بين العلمانية والديمقراطية والإسلام سواء في أقواله وتصريحاته أو تصرفاته، الأمر الذي أوجد هذه التساؤلات والانقسام بشأنه. فمن أبناء التيار الإسلامي من يراه خليفة المسلمين الأعظم الذي تجب بيعته كما حدث مع مؤتمر “شكراً تركيا” الذي نظمه التيار الإسلامي العربي وحضره وخطب فيه العديد من الوجوه العلمية والقامات المعروفة. وهناك تيار آخر يرى في أردوغان زعيماً علمانياً ديمقراطياً يتبع النمط الغربي بل ذهب البعض إلى تكفيره بناءً على تبنيه قانون غير إسلامي والحكم به وتصريحاته العلمانية القحة.
جاء أردوغان عبر آليات العملية الديمقراطية والنظام القائم ولم يعلن في أي وقت تحديه لهذا النظام أو التشكيك فيه أو السعي لتغييره، وكل ما فعله هو تغييره من النظام البرلماني حيث يلعب البرلمان ورئيس الوزراء الدور الأكبر إلى النظام الرئاسي ليبقى أردوغان صاحب الكلمة الأولى في البلد. لكن كلا النظامين هما شكلان من أشكال الحكم الديمقراطي الغربي على كل حال.
من المعلوم (أو غير المعلوم للكثيرين) أن النظام الديمقراطي للحكم هو نظام صوري يعطي الشعب الانطباع أنه يشارك في حكم بلده بانتخاب حكومته. لكن هذا النظام الديمقراطي يفرز حكومات مؤقتة يكون لها سلطة منقوصة بينما يُبقي مقاليد الحكم الحقيقي بأيدي مؤسسات عميقة داخل الدولة ، وهذه المؤسسات تتحكم فيها قوى تحرك الأمور من خلف الستار. وشرحنا مرة بعد الأخرى مثالاً على مثل هذه المؤسسات العميقة وهو البنوك المركزية للدول. وهذه البنوك هي مؤسسة تحتكر إصدار أموال البلد وتحدد فائدة إقراضه وكميات طرحه والمخزون الاحتياطي من النقد وغيرها من السياسات النقدية والمالية التي تحدد المصير الاقتصادي للبلد. ورغم أن هذه البنوك نشأت باعتراف الدولة القانوني الذي منحها هذه الصلاحيات إلا أنها تعتبر السلطة الرابعة داخل البلد ولا تخضع في جوهر عملها لأياً من السلطات الثلاث الأخرى التنفيذية والقضائية والتشريعية في النظام الديمقراطي. وتعمل هذه البنوك بحماية دولية ضمنية كونها مملوكة للمرابين الدوليين -الذين تحدث عنهم أردوغان بالأمس في خطابه- ولا يسمح بالتدخل في شأنها بشكل يهدد وظيفتها في التحكم المالي والنقدي بالدولة مما يجعلها دولة فوق الدولة.
وكذلك تبقى عملية إنشاء الأحزاب وتمويلها ووضع برامجها واختيار قادتها والدفع بهم للانتخابات المحلية والوطنية خاضعةً للعبة الديمقراطية التي يلعب فيها الأوليغارشية والأغنياء الدور الرئيسي ، فيأتي قادة الدول ورؤساؤها بأموال هؤلاء الأغنياء ويخضعون لسلطانهم ويبقون هناك على رأس سلطة جزئية لسنوات محدودة ثم يتم تغييرهم ليأتي محلهم آخرون بسلطة مؤقتة منقوصة وهكذا. وهذه هي حقيقة النظام الديمقراطي الغربي حيث لا تتمتع الحكومات والقادة المنتخبون بسلطة حقيقة مستدامة فضلاً عن كون القادة مديونين لمموليهم بالوصول لهذه المراتب على رأس الحكومات التي تكون هي أيضاً مديونة لهؤلاء الأوليغارشية.
وهذا التوصيف للحكم الديمقراطي هو ما يحدث مع قادة الدول الديمقراطية التي تراهم على رأس بلدانهم وسلطانهم عليها مؤقت ومحدود ومرتبط بالقوى الداخلية للبلد ومؤسساتها العميقة وتوازناتها والرأي العام الذي يتم توجيهه بوسائل إعلام يملكها هؤلاء الأوليغارشية أيضاً. وهو ما حدث ويحدث مع أردوغان، فسلطته ليست كاملة ولا يستطيع التصرف خارج نطاق اللعبة التي أتت به على رأس هذا البلد. وهذا بعكس من يأتي للسلطة عن طريق القوة أو بعد ثورة جماهيرية أو انقلاب مدبر أو غيرها من طرق التغيير الشاملة لنظام الحكم والقوى الداخلية وربما بحماية خارجية.
ويمكن الاستشهاد على ذلك بأمثلة كثيرة ومنها المثال التركي نفسه، فإن الطريقة التي جاءت بأتاتورك للحكم مكنته في خلال شهور أو سنوات قليلة من تغيير نظام الدولة التركية كله وإلغاء إرثها التاريخي العميق وإلغاء الخلافة وتقزيم أرضها وتغيير لغة الكتابة والآذان وإلغاء الزي الرسمي والطربوش واستبداله بالزي الغربي وكل تلك التغييرات الضخمة ، بينما أردوغان مع خلفياته وقوته وفترة بقاءه الطويلة في الحكم لم يتمكن حتى من إزالة صورة أتاتورك مؤسس الدولة القومية العلمانية من على جدران مكتبه، ومازال البنك المركزي يفرض الفائدة (وإن قلّت)، وما زالت الدولة تحكم بغير الشريعة الإسلامية، ومازالت الخمر تباع وتشترى في المحال، ومازالت بيوت الدعارة قائمة، وغير ذلك من المظاهر التي تخالف ما نظنه في الرجل من إسلام وصلاح ، فضلاً عن وجود القواعد الأمريكية على أرضه وتبعيته للنيتو وغير ذلك من مظاهر الخضوع للنظام الدولي القائم.
ونحن نقدر بالطبع ما أنجزه أردوغان من إنجازات ضخمة وتغيير كبير لصالح حقوق المسلمين والحريات والحجاب والضغط على البنك المركزي وتقليله الفائدة والقفزة الاقتصادية الضخمة فضلاً عن تبنيه لسياسة خارجية تحاول خدمة قضايا المسلمين وغير ذلك من الإنجازات، لكن يبقى هذا التغيير من نوع تحسين العبودية داخل نظام محلي ودولي لا يخضع للقانون الإلهي. ويمكن فهم ذلك أكثر بمعرفة أن المسلمين يحظون بمثل هذه الحريات من إقامة الشعائر التعبدية ولبس الحجاب وما أشبه في دول مثل بريطانيا وأمريكا واليابان وغيرها من الدول الغير مسلمة.
خلاصة القول هنا أن النظام الديمقراطي الغربي لا يسمح للقادة بعمل تغيير جذري في مجتمعاتهم ولا يعطي هؤلاء القادة السلطة ولا القدرة التي تمكنهم من عمل هذا التغيير لو أرادوا. وقد جاء أردوغان عبر آليات هذا النظام وأعلن التزامه به وبشروطه ولا يمكنه في مثل هذا النظام من عمل تغيير جذري لو أراد فضلاً عن الأوضاع الداخلية في بلده من انقسام كبير للشعب بين الإسلام والعلمانية التي تجعل أردوغان لا يفوز إلا بأغلبية بسيطة جداً رغم إنجازاته الاقتصادية. بل إنني أزعم أن الشعب التركي في معظمه لا يهمه الإسلام ولولا أن الرجل ناجح اقتصادياً لما حصد نصف النسبة التي يحصل عليها في أي انتخابات. فالأمر معقد جداً، والرجل حاكم غير ممكن وبالتالي فهو عاجز عن تغيير البلد جذرياً لو أراد بسبب الانقسام الشعبي وطريقة الحكم الديمقراطي.
وقد انقلب الغرب عليه خوفاً من خروج تركيا من القمقم فتصبح قوة يصعب السيطرة عليها. فإنجاز أردوغان الأخطر هو التقدم الكبير في الصناعات الدفاعية التي نقلت تركيا في هذا المجال لتصبح دولة متقدمة تصدر الأسلحة خاصة المسيرات التي مكنت أوكرانيا في فترات الحرب الأولى من الصمود ورد الهجوم الروسي في مراحله الأولى لدرجة أن الأوكرانيين ألفوا أغنية لهذه المسيرات. كما عمل أردوغان على بعث روح الانتماء الإسلامي داخل الشعب عبر وسائل كثيرة منها تلك المسلسلات التي تعبئ الناس وتشعرهم بالانتماء لتاريخهم الإسلامي، وإن كنا نأخذ عليه أنه لم يربِ جيل من الشباب تربية إسلامية صحيحة تجعله يحمل المسؤولية ويبشر بمستقبل إسلامي واعد، بل إن الخطر الأكبر على أردوغان يأتي من جيل الشباب الذي لم يعاصر تركيا المتخلفة ولا يستوعب النقلة الكبيرة التي حققها حكم أردوغان.
وفي النهاية، فرغم المحاذير الشرعية من انتخاب حكومة لا تحكم بشرع الله ولا تطبق قانونه إلا أن وصول المعارضة المدعومة من الغرب يفتح الباب على مصراعيه لتراجع تركيا في مجال الحريات الدينية على وجه الخصوص ويساهم في نشر الشذوذ والإباحية وتدمير الأسرة والتخلي عن التقدم التكنولوجي وتحجيم الإنتاج الدفاعي وتراجع الاقتصاد وتغير السياسة الخارجية لتخدم الغرب والتخلي عن نصرة قضايا المسلمين وغيرها من مكتسبات حكم أردوغان. فرغم فشل أردوغان في عمل تغيير جذري في الأمة التركية وفي إنشاء جيل مسلم ملتزم من الشباب ، ومع غياب القدرة على إعادة الحكم الإسلامي للأسباب التي شرحناها، فإن فوز أردوغان يعد أفضل الخيارات المتاحة.