الهيمنة الأنجلو أمريكية
كما في شهادة أليكس طومسون ضابط المخابرات البريطاني السابق أمام محكمة الرأي العام الشعبية الدولية فإن المصلحة الأساسية للسلالات المهيمنة عالمياً ومقرها في حي المال في مدينة لندن وفرعه في وول استريت بنيويورك ، كانت وما تزال في بسط الهيمنة العالمية ومنع أي قوة منافسة من الصعود. وكان التهديد الأساسي لسيادة هذه العائلات في الماضي يأتي من دول عدة خاصة ألمانيا وروسيا. وكان هم تلك القوى الأنجلو أمريكية هو منع التقارب الألماني الروسي على وجه الخصوص وهو الأمر الذي كان أحد أهم الأسباب خلف الحرب العالمية الأولى والثانية ، وكان هو الموجه لكثير من السياسات الأنجلو أمريكية التي عملت على منع هذا التقارب الذي قد يؤدي إلى تعاون وبروز قوى جديدة وتكوين تكتل يهدد هيمنة تلك العائلات الأنجلو أمريكية.
مشروع عملاق يربط ألمانيا وروسيا
وفي الأشهر الماضية تم الانتهاء من إنشاء خط أنابيب يمد ألمانيا بالغاز الروسي يسمى نورد استريم 2 الذي يمتد لأكثر من 1200 كيلو متر من فيبورغ Vyborg في روسيا عبر بحر البلطيق إلى لوبمين Lubmin في ألمانيا ويوفر 55 مليون متر مكعب سنوياً من الغاز الطبيعي لأوروبا ستسفيد ألمانيا من أكثره . كان الخط سيوفر الغاز الرخيص لألمانيا ويزيد الدخل الروسي بشكل يخدم البلدين ويؤدي إلى نشوء ذلك التقارب التجاري الاستراتيجي وبناء الثقة بين البلدين ومن ثم زيادة التعاون الاقتصادي والسياحي وربما التبادل التجاري بالعملات المحلية بعيداً عن الدولار ، مما قد يؤدي إلى نشوء منظومة أمنية جديدة في المنطقة اليورو- أسيوية واستغناء ألمانيا عن حماية الناتو و أمريكا التي لها قواعد عسكرية استراتيجية في ألمانيا ، وهذا هو عين الأمر الذي تحذره القوى المهيمنة في المؤسسة المالية الأنجلو أمريكية .
ابقاء ألمانيا في الفلك الأمريكي
ولهذا استهدفت السياسة الأمريكية إفشال هذه المشروع بكل ما أوتيت من قوة وتم ذلك خلال تشريعات وعقوبات للكونجرس في أعوام 2017 و2019 و2020 بهدف إبقاء ألمانيا في الفلك الأمريكي ، وابقاء الهيمنة لتلك السلالات الأنجلو أمريكية المتسلطة والتي تدين لها كل الدول بالديون. لكن مع ذلك استمر المشروع واكتمل خط الأنابيب وبقى التصديق القانوني عليه من قبل الألمان ليبدأ في الضخ مباشرة بعد ذلك.
أوكرانيا هي طوربيد تدمير المشروع
وهنا جاء دور أوكرانيا في المعادلة حيث مثلت أوكرانيا القذيفة التي استخدمت لتدمير هذا المشروع . حيث تم إظهار روسيا كتهديد للأمن الأوروبي والقارة الأوربية وبالتالي المبرر لمنع النفوذ المتزايد لروسيا على القارة عبر احتكارها إمداد الغاز لأوروبا – التي تعتمد بنسبة كبيرة بالفعل على الغاز الروسي الذي يمر عبر أراضي أوكرانيا . وقد قال بايدن عقب لقاءه بالمستشار الألماني في 8 فبراير الحالي: “إذا قامت روسيا بالغزو .. فإنه لن يكون هناك نورد استريم 2 ، سوف نقوم بإنهاءه” ، وهذا ما دفع كثير من المراقبين السياسيين مثل جورج فريدمان المدير التنفيذي لمعهد ستراتفور للشؤون الخارجية إلى القول أن الأزمة الأوكرانية تتعلق بألمانيا وليس بأوكرانيا.
تعليق التصديق الألماني على المشروع
ثم جاءت هذه الأزمة الروسية الأوكرانية مصحوبة بتعليق إقرار الصفقة الألمانية الروسية حيث أعلن مستشار ألمانيا أولاف شولتز يوم الثلاثاء 22 فبراير 2022 أنه سيتم تعليق عملية التصديق على خط أنابيب الغاز الطبيعي نورد ستريم 2 . جاءت خطوة تعليق التصديق هذه رداً على اعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالجمهوريات الانفصالية في دونباس ونشر القوات الروسية في المنطقة. وجاء هذا التعليق ليرضي النخب الانجلو أمريكية والتي تخاف من ذلك التقارب الذي قد يهدد هيمنة تلك الأسر على المدى الطويل. ولا شك أن بوتين كان يعلم ذلك ولكنه رغم ذلك اختار التحرك عسكرياً داخل أوكرانيا لأسباب أخرى.
الموقف من وجهة نظر بوتين
قدمت الدول الغربية وعوداً متواصلة لجورباتشوف الاتحاد السوفيتي السابق ثم لقادة روسيا من بعده بعدم مد حلف الناتو شرق نهر الإلب الألماني ، فقد كشفت وثيقة من الأرشيف الوطني البريطاني ظهرت من جديد في تقرير لصحيفة دير شبيجل الألمانية يوم 18 فبراير الحالي أن الاتحاد السوفيتي قد تلقى وعدًا بأن الناتو لن يتوسع شرقًا خلال المفاوضات في نهاية الحرب الباردة. ولكنهم أخلفوا وعودهم المرة تلو الأخرى وتمدد الحلف في دول شرق نهر الإلب مثل بولندا ورومانيا ، وكانت أوكرانيا على القائمة للانضمام للحلف أيضاً حسب توصيات بريجنسكي مستشار الحكومة الأمريكية في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” لعام 1997 أن “أوكرانيا هي محور جيوسياسي” وأوصى بضمها للحلف بحلول 2010.
آمال أوكرانيا للالتحاق بالنيتو
ومع وجود حكومة تميل للغرب في أوكرانيا بعد التدخل الأمريكي المستمر هناك (وخاصة انقلابي عام 2004 و عام 2014) حيث أقاموا تلك الحكومة ذات الميول الغربية ، فكانت هناك آمال لتلك الحكومة الأوكرانية بالانضمام لحلف الناتو . وقد شكل هذا تهديداً لروسيا حسب كلام بوتين ومبرراً له للتدخل العسكري ، فلم ينتظر حتى يتم ضم أوكرانيا لحلف الناتو فعلياً وتصبح الدولة في حماية الحلف ولا يستطيع التدخل فيها بعد ذلك دون الاصطدام بالحلف ، فأقدم على غزو أوكرانيا عسكرياً مستبقاً تلك الخطوة . وكان هذا أهم مبرر لشن بوتين حملته العسكرية حيث يهدف إلى تنصيب حكومة موالية له على غرار حكومة بيلاروسيا في مينسك.
اتفاق مينسك للحكم الذاتي
أما المبرر الثاني فهو اتهام بوتين للغرب والحكومة الأوكرانية أيضاً بعدم الوفاء باتفاق مينسك (الثاني) الموقع في فبراير 2015 والذي أعطى إقليمي دونيتسك ولوهانسك في منطقة دونباس الحكم الذاتي. فاتهم أوكرانيا والأطراف الغربية الموقعة على اتفاق منيسك الثاني (وهي ألمانيا وفرنسا) بعدم الوفاء به وتنفيذه . وهذا ما شكل مبرراً ثانياً له بالإضافة إلى إخلاف الغرب لوعودهم السابقة بعدم تمدد حلف النيتو للشرق ، شكل مبرراً علنياً كافياً ليعمل على تقويض هذا التمدد ومنح الإقليمين الحكم الذاتي وربما انفصالاً كاملاً عن أوكرانيا ، وهو ما أعلنه بوتين قبيل بدء غزوه.
رأي المركز
لكننا في مركز دراسات الواقع والتاريخ نرى أنه يتم تقديم هذا الشرح والخلفيات الجيوسياسية للمشكلة على أنها المبررات الحقيقة لشن الحرب سواء اتفقت مع كونها مبررات كافية أو غير كافية لتبرير الحرب. وستنقسم الآراء إلى مؤيد للخطوة وآخر معارض لها على تلك الأسس الجيوسياسية التي يتم تسويقها للشعوب على أنها مبررات الحرب.
المبررات الحقيقة مختلفة
لكن الحقيقة أن كل تلك القوى والرؤساء هم مجرد دمى خاضعة لإرادة القوى المهيمنة حالياً والتي تمتلك ديون تلك الدول وتسيطر على بنوكها المركزية وتتدخل في اختيار السياسيين والرؤساء وتزوير إرادة الشعوب. فهؤلاء الرؤساء أنفسهم أعضاء في منظمات دولية عالمية تقود “عملية تغيير عالمي كبيرة” مثل المنتدى الاقتصادي العالمي الذي افتخر رئيسه مؤخراً بأن برنامج المنتدى المسمى “قادة العالم الشباب ” قد أسفر عن تولي هؤلاء القادة زمام الأمور دولياً بقيادة الدول كما في ألمانيا وفرنسا والنمسا وهولاندا ونيوزيلاندا وكندا والأرجنتين وغيرها فأسماء مثل نيكولاي ساركوزي وأنجيلا ميركل وتوني بلير وترودو وماكرون حتى فلاديمير بوتين نفسه كان ضمن هؤلاء القادة حسب تصريح كلاوس شواب نفسه.
فهذه المبررات الجيوسياسية يتم تسويقها للرأي العام على أنها الأسباب لمثل تلك الحروب والأزمات (المصطنعة) والحقيقة أن هذه الأزمات المصطنعة تستخدم الآن لاستكمال الأجزاء المتبقية من النظام العالمي الجديد الذي هو استكمال السيطرة على الشعوب وتقليص حريات الأفراد وفرض نظام مراقبة على كل التعاملات المالية صغيرها وكبيرها .. الخ .
وأن هذه الأزمات ليست صراعاً بين كيانات متنافسة لكنها تشن على الشعوب نفسها لإخضاعها لذلك النظام الدولي الذي يتشكل حولنا.
توقيت الأزمة وعلاقته بكوفيد
ولقد جاءت هذه الأزمة في ذلك الوقت ومنها توقيت نشر مجلة ديل إشبيجل الألمانية ذلك المستند الذي يُذكِّر العالم بأن الغرب أخلف وعده لروسيا ليعطي روسيا مبرراً لشن الحرب على أوكرانيا في هذا الوقت. وهكذا يوزعون الأدوار ليثور الجدل بشأن تلك الأزمات وتضيع الحقيقة في خضم هذا الجدل.
لكن الحقيقة أن النخب المتسلطة وقادة العالم كانوا بحاجة ماسة إلى أزمة كبيرة بمثل الغزو الروسي لأوكرانيا للفت الانتباه الشعبي والإعلامي بعيداً عما ارتكبوه من جرائم ومجازر خلال فترة كوفيد وما تلاه من فرض لقاحات تجريبية خطيرة تسببت في قتل مئات الآلاف وإصابة الملايين بعاهات مستديمة ، وسيستمر أثرها في الظهور بمرور الوقت. وكانوا بحاجة لمثل هذه الأزمة أيضاً لإعادة تلميع قادتهم مرة أخرى وحشد التأييد الشعبي خلفهم وربما لإعادة إنتخاب بعضهم وتغيير البعض الآخر لتستمر اللعبة على الشعوب.
الحرب أفضل أدواتهم
هذا فضلاً عما للحرب من نتائج مرغوبة في حد ذاتها تجعلها دائماً أفضل أدوات التغيير الممكنة ، ففضلاً عن التعمية ولفت الأنظار فإنها تورط الدول في مزيد من الديون وتدر أرباحاً على شركات السلاح والدواء والوقود بل وإعادة الإعمار وهذه جلها مملوكة للنخبة ، كما أنها تسبب زيادات كبرى في الأسعار والتأثير على سلاسل إمداد الوقود والغذاء مما يسبب مزيد من الضغط على العامة وإفقارهم وهو أحد أهداف النخب للسيطرة على الشعوب ، وقد شرحنا كل ذلك في فيلمنا “الإرهاب والإعلام والحروب“.