كثيرا ما أقابل أمهات قلقات دوما ودونما سبب واضح على أحوالي وأحوال أولادي الغير مستقرة في نظرهم
فتأتي أم قلقة وتسألني “وكيف أحوال دراسة أولادك ومذاكرتهم في تعليمكم المنزلي ؟”
فأقول مبتسمة : بخير والحمد لله
فتعود تلك الأم القلقة لتسألني : “وما أخبار ابنك في منهج الماث ؟”
أرد بنفس عميق وابتسامة منضغطة استعدادا لمواجهة كلامية تلوح في الأفق : ليس لدينا منهج للماث
وهنا يأتي السؤال الجزع : “كيف ؟ لابد من منهج !!
فأرد :أنا لا أعلم أولادي بالمناهج، بل أنتظر لحظة انطلاق شرارة اهتمامه بشيء ما، فأساعده على تعلمه بتوفير الكتب والمصادر له وتيسير رحلة تعلمه فيها بالإمكانيات المتاحة لدي… وفقط.
فأجد إصرارا من تلك الأم أنه لابد لي من العودة لمنهج ما حتى يستطيع ابني فهم الماث !
ثم تجذب الأم ابني من ذراعه وتجلسه على أرجلها وتبدأ في اختبار حثيث لمدى قدراته ( الماثية ) وكفاءته في الجمع والطرح الذهني المجرد !!
أنا لا أعلم أولادي بالمناهج، بل أنتظر لحظة انطلاق شرارة اهتمامه بشيء ما، فأساعده على تعلمه بتوفير الكتب والمصادر له وتيسير رحلة تعلمه فيها بالإمكانيات المتاحة لدي… وفقط
يغلي الدم في عروقي من المشهد ولكني لا أستطيع إظهار الدخان فوق رأسي لحساسية العلاقة، وأتمنى في داخلي أن يثور ابني ويرفض كعادته عندما يجبره أحد على مالا يريد، ولكنه يستجيب للأسف ويجيب على اسئلة الأم القلقة بهدوء تام، والأغرب أن كل إجاباته سليمة رغم اني لم أدربه أبدا على الجمع والطرح الذهني ! وهذا شيء فاجئني أنا شخصياً كأمه.
وحمدت الله أنه لولا إجاباته السليمة لكنت واجهت وابلاً من النصائح القلقة جدا جدا بضرورة اتباع منهج ماث أو الاستعانة بمدرس خصوصي أو ربما يبدأ هنا التشكيك وفرصة الهجوم في قرار التعليم المنزلي بأكمله والذي أعلم أنه يكمن بالجوار وينتظر الفرصة كي ينقض.
هنا تعجبت كثيرا.. ما بال هذا (الماث !) يشغل الأذهان لهذه الدرجة وكأنهم مشغولون مثلا على أمن و سلامة ابني ؟؟
الرياضيات في الموروث الثقافي لدينا
تذكرت الموروث الثقافي الذي تأصل في مجتمعنا لسنوات أن الماهر بالرياضيات هو الوحيد الذي يُرى ذكيا نابها وسط الجموع الأخرى البليدة المسكينة الغير ماهرة بالرياضيات.
كما أن الرياضيات وغيرها من المواد العلمية هي المؤهل الأول من نظر المجتمع للوصول إلي كليات القمة الوهمية، وبالتالي الوصول إلي قمة الهرم الإجتماعي وربما الهرم المالي حسب النظرة الغابرة التي لم تعد صالحة زمانا و مكان..
اوه إذن الماث = القمة !
والأهم من ذلك بكثير، أدركت هنا أننا نتعامل مع أولادنا كحواسيب، لابد وأن نحمل عليها بعض البرامج الاساسية من وجهة نظرنا ليعمل الحاسوب جيداً ويصبح عالي الأداء !
يتعامل الأهالي مع عقول الأولاد بأسلوب ال download و ال set up
لبرامج تسمى الماث والساينس وبرامج اللغات على كل أشكالها ومناهج مناهج من كل حدب وصوب..
(عذراً لكتابتي كلمات إنجليزية بحروف عربية ولكنه نفس استخدام الأهالي نفسهم)..
تلك (المناهج) البرامج التي يجب تسطيبها (to set up) في تلافيف عقل كل طفل حاسوب ينزل إلي هذه الدنيا، هي من وجهة نظرهم ما يثبت أن الولد يعمل جيدا and can function properly !
وهنا أسأل نفسي.. أي أداء ؟!
ماهو الشيء الذي يثبته تعلم هذه الأشياء بعينها في تلك السن الصغيرة ؟!
ماهو الأداء المنتظر بعد تعلمهم أو (تسطيبهم) في عقل الطفل ؟!
بل ولماذا تلك البرامج بالذات ؟! لماذا هي دون غيرها حتى يقلق الأهالي بهذا الشكل لو لم تسطب في العقل الحاسوبي جيداً ؟!
ولماذا لا تلقى المهارات والخبرات الحياتية مثل هذا القدر من القلق و الاهتمام ؟!
مهارة مثل التسلق (مهارة حركية) أو مهارة مثل التفاوض (مهارة اجتماعية) قد تكون فعليا وبشكل مباشر سبباً في أمن و سلامة أولادنا يوما ما، فكيف يتأتى ألا نوليها نفس القدر من الإهتمام الذي نعطيه لل(برمجة) التي نمارسها على أبنائنا ؟!
وقتها أيقنت أني على الطريق السليم (وهو يقين على اليقين).
وعرفت في هذه اللحظة كما عرفت فطرتي من قبلي أني أبداً لن أبرمج أبنائي، ولن أتعامل معهم كحواسيب فارغة جامدة تنتظر الإمتلاء ببرامج موضوعة كي تعمل، ولن أهين عقولهم المنطلقة بمحدودية منهج يشبه برنامج حاسوب ينتظر التحميل على عقل الطفل وإن كان أقرب لل virus أو ال malware من وجهة نظري.
برامج حددها بالأساس مجتمع لم يستطع حتى الاستفادة من البرمجة الجبرية التي مارسها على ابنائه، فكيف وأنا الأم الواعية كما أريد لنفسي أن أمارس نفس تلك البرمجة قسرا على أولادي مقتدية بمثل هذا المجتمع القلق من حولي ؟
ولكن الحمد لله على فطرة سليمة و وعي سليم..
هذا الوعي الذي يجعل على كل أم تريد لأولادها أن يكونوا ذوي عقول حرة حقيقية كما خلقها الله، فقط أن تقوم بالضغط على Delete لكل عائق يحدها وكل رأي يحيدها عن الطريق..
ثم Format لكل البرامج الموضوعة..
وتبدأ من جديد… من عقول أبنائها البكر ومن روحهم المنطلقة كطائر محلق… يخرج منهجها منهم هم ومن عيونهم اللماعة ومن أياديهم المستكشفة ومن قلوبهم الشغوفة… هذه هي الكيفية التي أعرف أن الله قد خلق العقل الإنساني عليها، ولا غيرها من برامج محدودة الهدف فقيرة المضمون ضحلة الغاية، برامج بأسماء سميناها ما أنزل الله بها من سلطان، ماث و ساينس، ولغات عددها ربما يتعدى عدد أصابع الأيدي والأرجل معا،و مناهج من كل دولة ومدينة ومن كل بقعة عمرتها البشرية.. برامج وضعناها والعقل البشري أصلا نزل على الأرض ببرنامج إلهي معجز خُلق قادرا أن يسعها ويصل إليها فطريا بل ويتعداها بمسافات، بدون هذا الجهد المبالغ منا وبلا مناهج وضعية عديمة الرجاء.
وكأنما قبل هذه المناهج (البرامج) لم يخلق الله لنا عقلا يفكر ويبدع ويبتكر ويصنع.
وكأنهم يزايدون على صنع الله الذي أتقن كل شيء..
وعرفت في هذه اللحظة كما عرفت فطرتي من قبلي أني أبداً لن أبرمج أبنائي، ولن أتعامل معهم كحواسيب فارغة جامدة تنتظر الإمتلاء ببرامج موضوعة كي تعمل، ولن أهين عقولهم المنطلقة بمحدودية منهج يشبه برنامج حاسوب ينتظر التحميل على عقل الطفل وإن كان أقرب لل virus أو ال malware من وجهة نظري.
لكل أم تحب أبنائها وتؤمن بهم، أقول لها دعي عنك البرمجة و البرامج.
سيتعلم العلم وحده لا محالة طالما أنت أم محبة واعية داعمة فاهمة لدورك، سيتعلمها في الوقت المناسب له هو وليس المناسب لك أنت.. بالكيفية المناسبة له هو وليست كيفيتك أنتِ …
اغتنمي العقل المتقن الذي خلقه الله في أحسن تقويم، واجعليه دليلك ودليله في التعلم والصعود والترقي بعقله وروحه، ولا تلجئي لبرامج من صنع الانسان المحدود القدرات وأنت عاقدة كل الآمال عليها وتظنين دونها أنه لا سبيل لتعلم..
اتركي العقل يتعلم بطريقته..
أتركي خلق الله ينمو و يزهر..
لا تريدين بعد الحشو البرمجي الفارغ في عقل ابنك أن تجدي يوما رسالة تقول لك …shutting down !
لقد أُغلق العقل الحاسوبي ولم يعد قادراً على الأداء !